فصل: تفسير الآيات رقم (26- 28)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏26‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏27‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ‏}‏ للمهاجرين، أي اذكروا وقت قلتكم، و‏{‏مُّسْتَضْعَفُونَ‏}‏ خبر ثان للمبتدأ، والأرض هي أرض مكة، والخطف‏:‏ الأخذ بسرعة، والمراد بالناس‏:‏ مشركو قريش‏.‏ وقيل‏:‏ فارس والروم ‏{‏فَآوَاكُمْ‏}‏ يقال‏:‏ آوى إليه بالمد وبالقصر بمعنى‏:‏ انضم إليه‏.‏ فالمعنى‏:‏ ضمكم الله إلى المدينة أو إلى الأنصار ‏{‏وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ قوّاكم بالنصر في مواطن الحرب التي منها يوم بدر، أو قوّاكم بالملائكة يوم بدر ‏{‏وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات‏}‏ التي من جملتها الغنائم ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ إرادة أن تشكروا هذه النعم، التي أنعم بها عليكم، والخون أصله كما في الكشاف‏:‏ النقص‏.‏ كما أن الوفاء التمام، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان‏.‏ وقيل معناه‏:‏ الغدر وإخفاء الشيء‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاعين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 19‏]‏ نهاهم الله عن أن يخونوه بترك شيء مما افترضه عليهم، أو يخونوا رسوله بترك شيء مما أمنهم عليه، أو بترك شيء مما سنه لهم، أو يخونوا شيئاً من الأمانات التي اؤتمنوا عليها، وسميت أمانات لأنه يؤمن معها من منع الحق، مأخوذة من الأمن‏.‏

وجملة ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال، أي وأنتم تعلمون أن ذلك الفعل خيانة، فتفعلون الخيانة عن عمد، أو وأنتم من أهل العلم لا من أهل الجهل‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ‏}‏ لأنهم سبب الوقوع في كثير من الذنوب، فصاروا من هذه الحيثية محنة يختبر الله بها عباده، وإن كانوا من حيثية أخرى زينة الحياة الدنيا كما في الآية الأخرى ‏{‏وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ فآثروا حقه على أموالكم وأولادكم، ليحصل لكم ما عنده من الأجر المذكور‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏واذكروا إِذَ أَنتُمْ قَلِيلٌ‏}‏ قال‏:‏ كان هذا الحيّ من العرب أذلّ الناس ذلاً، وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأبينه ضلالة، من عاش عاش شقياً، ومن مات منهم ردّي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، لا والله ما نعلم قبيلاً من حاضري الأرض يومئذ كان أشرّ منزلاً منهم حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس‏.‏ وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله عزّ وجلّ‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، في قوله‏:‏ ‏{‏يَتَخَطَّفَكُمُ الناس‏}‏ قال‏:‏ في الجاهلية بمكة ‏{‏فَآوَاكُمْ‏}‏ إلى الإسلام‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن وهب، في قوله‏:‏ ‏{‏يَتَخَطَّفَكُمُ الناس‏}‏ قال‏:‏ الناس إذ ذاك فارس والروم‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، وأبو نعيم، والديلمي، في مسند الفردوس، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قوله‏:‏ ‏{‏واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس‏}‏ قيل‏:‏ يا رسول الله ومن الناس‏؟‏ قال‏:‏ «أهل فارس» وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏فَآوَاكُمْ‏}‏ قال‏:‏ إلى الأنصار بالمدينة ‏{‏وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ‏}‏ قال‏:‏ يوم بدر‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن جابر بن عبد الله، أن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا»، فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ياأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عبد الله بن أبي قتادة، قال‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏لاَ تَخُونُواْ الله والرسول‏}‏ في أبي لبابة بن عبد المنذر، سألوه يوم قريظة ما هذا الأمر‏؟‏ فأشار إلى حلقه أنه الذبح، فنزلت‏.‏ قال أبو لبابة‏:‏ ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله‏.‏ وأخرج سنيد، وابن جرير، عن الزهري نحوه بأطول منه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن الكلبي أن رسول الله بعث أبا لبابة إلى قريظة وكان حليفاً لهم، فأومأ بيده أنه الذبح، فنزلت‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، في هذه الآية‏:‏ أنها نزلت في أبي لبابة، ونسختها الآية التي في براءة ‏{‏وَءاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَخُونُواْ الله‏}‏ قال‏:‏ بترك فرائضه ‏{‏والرسول‏}‏ بترك سننه، وارتكاب معصيته ‏{‏وَتَخُونُواْ أماناتكم‏}‏ يقول‏:‏ لا تنقصوها‏.‏ والأمانة‏:‏ الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن المغيرة بن شعبة، قال‏:‏ نزلت هذه الآية في قتل عثمان‏.‏ ولعل مراده أن من جملة من يدخل تحت عمومها قتل عثمان‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن يزيد بن أبي حبيب، في الآية قال‏:‏ هو الإخلال بالسلاح في المغازي، ولعل مراده أن هذا مما يندرج تحت عمومها‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن مسعود، قال‏:‏ ما منكم من أحد إلا وهو يشتمل على فتنة، لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ‏}‏ فمن استعاذ منكم، فليستعذ بالله من مضلات الفتن‏.‏ وأخرج هؤلاء عن ابن زيد في الآية قال‏:‏ فتنة الإختبار اختبرهم، وقرأ و‏{‏وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

جعل سبحانه التقوى شرطاً في الجعل المذكور، مع سبق علمه بأنهم يتقون أو لا يتقون جرياً على ما يخاطب به الناس بعضهم بعضاً‏.‏ والتقوى‏:‏ اتقاء مخالفة أوامره والوقوع في مناهيه‏.‏ والفرقان‏:‏ ما يفرق به بين الحق والباطل، والمعنى‏:‏ أنه يجعل لهم من ثبات القلوب، وثقوب البصائر، وحسن الهداية ما يفرقون به بينهما عند الالتباس‏.‏ وقيل‏:‏ الفرقان المخرج من الشبهات والنجاة من كل ما يخافونه، ومنه قول الشاعر‏:‏

مالك من طول الأسى فرقان *** بعد قطين رحلوا وبانوا

ومنه قول الآخر‏:‏

وكيف أرجو الخلد والموت طالبي *** وما لي من كأس المنية فرقان

وقال الفراء‏:‏ المراد بالفرقان الفتح والنصر‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ الفرقان الفصل بين الحق والباطل، وبمثله قال ابن زيد، وقال السديّ‏:‏ الفرقان النجاة، ويؤيد تفسير الفرقان بالمخرج والنجاة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ وبه قال مجاهد ومالك بن أنس‏.‏

‏{‏وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يسترها حتى تكون غير ظاهرة ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ ما اقترفتم من الذنوب‏.‏ وقد قيل إن المراد بالسيئات‏:‏ الصغائر، وبالذنوب التي تغفر‏:‏ الكبائر‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أنه يغفر لهم ما تقدّم من الذنوب وما تأخر ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ فهو المتفضل على عباده بتكفير السيئات ومغفرة الذنوب‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا‏}‏ قال‏:‏ هو المخرج‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه، قال‏:‏ هو‏:‏ النجاة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عكرمة، مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال‏:‏ هو النصر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏30‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏32‏)‏ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الظرف معمول لفعل محذوف، أي‏:‏ واذكر يا محمد وقت مكر الكافرين بك، أو معطوف على ما تقدّم من قوله ‏{‏واذكروا‏}‏ ذكر الله رسوله هذه النعمة العظمى التي أنعم بها عليه، وهي نجاته من مكر الكافرين وكيدهم كما سيأتي بيانه ‏{‏لِيُثْبِتُوكَ‏}‏ أي‏:‏ يثبتوك بالجراحات، كما قال ثعلب وأبو حاتم، وغيرهما، ومنه قول الشاعر‏:‏

فقلت ويحكم ما في صحيفتكم *** قالوا الخليفة أمسى مثبتاً وجعا

وقيل‏:‏ المعنى ليحبسوك، يقال أثبته‏:‏ إذا حبسه‏.‏ وقيل‏:‏ ليوثقوك، ومنه‏:‏ ‏{‏فَشُدُّواْ الوثاق‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقرأ الشعبي ‏"‏ ليبيتوك ‏"‏ من البيات‏.‏ وقرئ «ليثبتوك» بالتشديد ‏{‏أَوْ يُخْرِجُوكَ‏}‏ معطوف على ما قبله، أي يخرجوك من مكة التي هي بلدك وبلد أهلك‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله‏}‏ مستأنفة‏.‏ والمكر‏:‏ التدبير في الأمر في خفية‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يخفون ما يعدّونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المكايد، فيجازيهم الله على ذلك ويردّ كيدهم في نحورهم‏.‏ وسمى ما يقع منه تعالى مكراً مشاكلة، كما في نظائره ‏{‏والله خَيْرُ الماكرين‏}‏ أي‏:‏ المجازين لمكر الماكرين بمثل فعلهم، فهو يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون، فيكون ذلك أشدّ ضرراً عليهم وأعظم بلاء من مكرهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ أي التي تأتيهم بها، وتتلوها عليهم ‏{‏قَالُواْ‏}‏ تعنتاً وتمرّداً وبعداً عن الحق ‏{‏قَدْ سَمِعْنَا‏}‏ ما تتلوه علينا ‏{‏لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا‏}‏ الذي تلوته علينا‏.‏ قيل‏:‏ إنهم قالوا هذا توهماً منهم أنهم يقدرون على ذلك‏.‏ فلما راموا أن يقولوا مثله عجزوا عنه‏.‏ ثم قالوا عناداً وتمرّداً ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين‏}‏ أي‏:‏ ما يستطره الوراقون من أخبار الأوّلين، وقد تقدّم بيانه مستوفى‏.‏

‏{‏وَإِذْ قَالُواْ‏}‏ أي‏:‏ واذكر إذ قالوا ‏{‏اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ‏}‏ بنصب الحق على أنه خبر كان، والضمير للفصل، ويجوز الرفع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ولا أعلم أحداً قرأ بها، ولا اختلاف بين النحويين في إجازتها، ولكن القراءة سنة، والمعنى‏:‏ إن كان القرآن الذي جاءنا به محمد هو الحق، ‏{‏فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا‏}‏ قالوا هذه المقالة مبالغة في الجحود والإنكار‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يقال أمطر في العذاب، ومطر في الرحمة‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ قد كثر الإمطار في معنى العذاب‏.‏

‏{‏أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ سألوا أن يعذبوا بالرجم بالحجارة من السماء، أو بغيرها من أنواع العذاب الشديد‏.‏ فأجاب الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ‏}‏ يا محمد ‏{‏فِيهِمْ‏}‏ موجود، فإنك ما دمت فيهم فهم في مهلة من العذاب الذي هو الاستئصال ‏{‏وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ روي أنهم كانوا يقولون في الطواف غفرانك، أي‏:‏ وما كان الله معذبهم في حال كونهم يستغفرونه‏.‏

وقيل المعنى‏:‏ لو كانوا ممن يؤمن بالله ويستغفره لم يعذبهم‏.‏ وقيل إن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم، أي وما كان الله ليعذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين، فلما خرجوا من بين أظهرهم عذبهم بيوم بدر وما بعده‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ وما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، والخطيب، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ قال‏:‏ تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم‏:‏ إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم‏:‏ بل اقتلوه، وقال بعضهم‏:‏ بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات عليّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوه علياً ردّ الله مكرهم فقالوا‏:‏ أين صاحبك هذا‏؟‏ فقال‏:‏ لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا‏:‏ لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم، والبيهقي، عن ابن عباس، فذكر القصة بأطول مما هنا‏.‏ وفيها ذكر الشيخ النجدي أي إبليس ومشورته عليهم عند اجتماعهم في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أبا جهل أشار بأن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش غلاماً، ويعطوا كل واحد منهم سيفاً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل، فقال الشيخ النجدي‏:‏ هذا والله هو الرأي، فتفرّقوا على ذلك‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عبيد بن عمير، قال‏:‏ لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، قال له عمه أبو طالب‏:‏ هل تدري ما ائتمروا بك‏؟‏ قال‏:‏ «يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني»، قال‏:‏ من حدّثك بهذا‏؟‏ قال‏:‏ «ربي»، قال‏:‏ نعم الربّ ربك استوص به خيراً، قال‏:‏ «أنا أستوصي به‏؟‏ بل هو يستوصي بي» وأخرجه ابن جرير من طريق أخرى عنه‏.‏ وهذا لا يصح، فقد كان أبو طالب مات قبل وقت الهجرة بسنين‏.‏

وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ قال‏:‏ قال عكرمة هي مكية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عطاء في قوله‏:‏ ‏{‏لِيُثْبِتُوكَ‏}‏ يعني‏:‏ ليوثقوك‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبراً عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عديّ، والنضر بن الحارث، وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد‏:‏ يا رسول الله أسيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول»، قال‏:‏ وفيه أنزلت هذه الآية ‏{‏وَإِذا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ وهذا مرسل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ أنها نزلت في النضر بن الحارث‏.‏

وأخرج البخاري، وابن أبي حاتم، وابن الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال أبو جهل بن هشام ‏{‏اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ‏}‏ الآية فنزلت ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة، أنها نزلت في أبي جهل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، في الآية، أنها نزلت في النضر بن الحارث‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ عن مجاهد مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عطاء، نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال‏:‏ كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون‏:‏ لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، ويقولون‏:‏ غفرانك غفرانك، فأنزل الله ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ‏}‏ الآية‏.‏

قال ابن عباس، كان فيهم أمانان‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، فذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبقي الاستغفار‏.‏ وأخرج الترمذي وضعفه، عن أبي موسى الأشعري، قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم «أنزل الله عليّ أمانين لأمتي ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ‏}‏ الآية، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار» وأخرج أبو الشيخ، والحاكم وصححه، والبهيقي في شعب الإيمان، عن أبي هريرة قال‏:‏ كان فيكم أمانان مضى أحدهما وبقي الآخر، قال ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، والطبراني وابن مردويه، والحاكم، وابن عساكر، عن أبي موسى الأشعري نحوه أيضاً، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مطلق الاستغفار كثيرة جدّاً معروفة في كتب الحديث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏35‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ‏(‏36‏)‏ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله‏}‏ لما بيّن سبحانه أن المانع من تعذيبهم هو الأمران المتقدمان وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهورهم، ووقوع الاستغفار‏.‏ ذكر بعد ذلك أن هؤلاء الكفار، أعني‏:‏ كفار مكة، مستحقون لعذاب الله لما ارتكبوا من القبائح‏.‏ والمعنى‏:‏ أيّ شيء لهم يمنع من تعذيبهم‏؟‏ قال الأخفش‏:‏ إن «أن» زائدة‏.‏ قال النحاس‏:‏ لو كان كما قال لرفع ‏{‏يعذبهم‏}‏، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام‏}‏ في محل نصب على الحال، أي وما يمنع من تعذيبهم‏؟‏ والحال أنهم يصدّون الناس عن المسجد الحرام، كما وقع منهم عام الحديبية من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البيت، وجملة ‏{‏وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ‏}‏ في محل نصب على أنها حال من فاعل ‏{‏يَصِدُّونَ‏}‏، وهذا كالردّ لما كانوا يقولونه من أنهم ولاة البيت، وأن أمره مفوّض إليهم، ثم قال مبيناً لمن له ذلك‏:‏ ‏{‏إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون‏}‏ أي‏:‏ ما أولياؤه إلا من كان في عداد المتقين للشرك والمعاصي ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك، والحكم على الأكثرين بالجهل يفيد أن الأقلين يعلمون ولكنهم يعاندون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏ المكاء‏:‏ الصفير من مكا يمكو مكاء، ومنه قول عنترة‏:‏

وخليل غانية تركت مجندلا *** تمكو فريصته كشدق الأعلم

أي‏:‏ تصوّت‏.‏ ومنه مكت است الدابة‏:‏ إذا نفخت بالريح، قيل المكاء‏:‏ هو الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء‏.‏ قال الشاعر‏:‏

إذا غرّد المكاء في غير دوحة *** فويل لأهل الشاء والحمرات

والتصدية‏:‏ التصفيق، يقال صدّى يصدّى تصدية‏:‏ إذا صفق، ومنه قول عمر بن الإطنابة‏:‏

وظلوا جميعاً لهم ضجة *** مكاء لدى البيت بالتصدية

أي بالتصفيق‏.‏ وقيل المكاء‏:‏ الضرب بالأيدي، والتصدية‏:‏ الصياح‏.‏ وقيل المكاء‏:‏ إدخالهم أصابعهم في أفواههم، والتصدية‏:‏ الصفير‏.‏ وقيل التصدية‏:‏ صدّهم عن البيت‏.‏ قيل‏:‏ والأصل على هذا تصددة، فأبدل من إحدى الدالين ياء‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أن المشركين كانوا يصفرون ويصفقون عند البيت الذي هو موضع للصلاة والعبادة، فوضعوا ذلك موضع الصلاة، قاصدين به أن يشغلوا المصلين من المسلمين عن الصلاة‏.‏ وقرئ بنصب ‏"‏ صلاتهم ‏"‏ على أنها خبر كان، وما بعده اسمها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ هذا التفات إلى مخاطبة الكفار تهديداً لهم ومبالغة في إدخال الروعة في قلوبهم، والمراد به‏:‏ عذاب الدنيا كيوم بدر وعذاب الآخرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ لما فرغ سبحانه من شرح أحوال هؤلاء الكفرة في الطاعات البدنية، أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية‏.‏ والمعنى‏:‏ أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصدّ عن سبيل الحق، بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع الجيوش لذلك، وإنفاق أموالهم عليها، وذلك كما وقع من كفار قريش يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب‏.‏

فإن الرؤساء كانوا ينفقون أموالهم على الجيش، ثم أخبر الله سبحانه عن الغيب على وجه الإعجاز فقال‏:‏ ‏{‏فَسَيُنفِقُونَهَا‏}‏ أي‏:‏ سيقع منهم هذا الإنفاق ‏{‏ثُمَّ تَكُونُ‏}‏ عاقبة ذلك أن يكون إنفاقهم حسرة عليهم، وكأن ذات الأموال تنقلب حسرة تصير ندماً‏.‏ ‏{‏ثُمَّ‏}‏ آخر الأمر ‏{‏يُغْلَبُونَ‏}‏ كما وعد الله به في مثل قوله‏:‏ ‏{‏كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 21‏]‏‏.‏ ومعنى ‏{‏ثُمَّ‏}‏ في الموضعين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور، وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة، ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ استمرّوا على الكفر، لأن من هؤلاء الكفار المذكورين سابقاً من أسلم وحسن إسلامه، أي يساقون إليها لا إلى غيرها‏.‏ ثم بيّن العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعله فقال‏:‏ ‏{‏لِيَمِيزَ الله الخبيث‏}‏ أي‏:‏ الفريق الخبيث من الكفار ‏{‏مِنْ‏}‏ الفريق ‏{‏الطيب‏}‏ وهم المؤمنون ‏{‏وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ‏}‏ أي‏:‏ يجعل فريق الكفار الخبيث بعضه على بعض ‏{‏فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً‏}‏ عبارة عن الجمع والضم، أي يجمع بعضهم إلى بعض، ويضمّ بعضهم إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامهم‏.‏ يقال ركم الشيء يركمه‏:‏ إذا جمعه وألقى بعضه على بعض‏.‏ والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى الفريق الخبيث ‏{‏هُمُ الخاسرون‏}‏ أي‏:‏ الكاملون في الخسران‏.‏ وقيل‏:‏ الخبيث والطيب‏:‏ صفة للمال، والتقدير يميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون، فيضمّ تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض، فيلقيه في جهنم ويعذبهم بها، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 35‏]‏‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ واللام على هذا متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً‏}‏، وعلى الأوّل ب ‏{‏يحشرون‏}‏، و‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الذين كفروا‏.‏ انتهى‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس ‏{‏وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ ثم استثنى أهل الشرك فقال ‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن سعيد بن جبير، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله‏}‏ قال‏:‏ عذابهم فتح مكة‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وأبو حاتم، عن عباد بن عبد الله بن الزبير ‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله‏}‏ وهم يجحدون بآيات الله ويكذبون رسله‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عروة بن الزبير، في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام‏}‏ أي‏:‏ من آمن بالله وعبده، أنت ومن اتبعك ‏{‏وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون‏}‏ الذين يخرجون منه ويقيمون الصلاة عنده، أي أنت ومن آمن بك‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون‏}‏ قال‏:‏ من كانوا حيث كانوا‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ كانت قريش يعارضون النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطواف، ويستهزئون ويصفرون ويصفقون، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والضياء عن ابن عباس، قال‏:‏ كانت قريش يطوفون بالكعبة عراة تصفر وتصفق، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏ قال‏:‏ والمكاء الصفير، إنما شبهوا بصفير الطير، وتصدية‏:‏ التصفيق وأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، نحوه‏.‏ وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عنه نحوه أيضاً‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عمر قال‏:‏ المكاء الصفير، والتصدية‏:‏ التصفيق‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال‏:‏ المكاء إدخال أصابعهم في أفواههم، والتصدية الصفير، يخلطون بذلك كله على محمد صلى الله عليه وسلم صلاته‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ‏:‏ قال‏:‏ المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء يكون بأرض الحجاز، والتصدية‏:‏ التصفيق‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مُكَاء‏}‏ قال‏:‏ كانوا يشبكون أصابعهم ويصفرون فيهنّ ‏{‏وَتَصْدِيَةً‏}‏ قال‏:‏ صدّهم الناس‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن عكرمة قال‏:‏ كان المشركون يطوفون بالبيت على الشمال‏.‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏ فالمكاء مثل نفخ البوق، والتصدية‏:‏ طوافهم على الشمال‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ قال‏:‏ يعني أهل بدر عذبهم الله بالقتل والأسر‏.‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، كلهم من طريقه، قال‏:‏ حدّثني الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحسين بن عبد الرحمن بن عمرو قالوا‏:‏ لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا‏:‏ يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينوا بهذا المال على حربه فلعلنا أن ندرك منه ثاراً‏.‏

ففعلوا، ففيهم كما ذكر ابن عباس، أنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ إلى ‏{‏والذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج هؤلاء وغيرهم عن سعيد بن جبير نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحكم بن عتيبة، في الآية قال‏:‏ نزلت في أبي سفيان أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب، وكانت الوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالاً من ذهب‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن شمر بن عطية، في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب‏}‏ قال‏:‏ يميز يوم القيامة ما كان من عمل صالح في الدنيا، ثم تؤخذ الدنيا بأسرها فتلقى في جهنم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في قوله‏:‏ ‏{‏فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً‏}‏ قال‏:‏ يجمعه جميعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏39‏)‏ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى‏.‏ وسواء قاله بهذه العبارة أو غيرها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولو كان كما قال الكسائي إنه في مصحف عبد الله بن مسعود «قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن تَنتَهُواْ» يعني‏:‏ بالتاء المثناة من فوق، لما تأدّت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ أي قل لأجلهم هذا القول، وهو ‏{‏إِن يَنتَهُواْ‏}‏ ولو كان بمعنى خاطبهم، لقيل إن تنتهوا يغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود، ونحوه ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏ خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه، أي إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام ‏{‏يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ لهم من العداوة‏.‏ انتهى‏.‏ وقيل معناه‏:‏ إن ينتهوا عن الكفر، قال ابن عطية‏:‏ والحامل على ذلك جواب الشرط ب ‏{‏يغفر لهم ما قد سلف‏}‏، ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر‏.‏ وفي هذه الآية دليل على أن الإسلام يجبّ ما قبله‏.‏

‏{‏وَإِن يَعُودُواْ‏}‏ إلى القتال والعداوة أو إلى الكفر الذي هم عليه، ويكون العود بمعنى الاستمرار ‏{‏فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين‏}‏ هذه العبارة مشتملة على الوعيد، والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله، أي قد مضت سنة الله فيمن فعل مثل فعل هؤلاء من الأوّلين من الأمم أن يصيبه بعذاب، فليتوقعوا مثل ذلك‏.‏

‏{‏وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ كفر‏.‏ وقد تقدّم تفسير هذا في البقرة مستوفى ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ عما ذكر ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ لا يخفى عليه ما وقع منهم من الانتهاء ‏{‏وَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ عما أمروا به من الانتهاء ‏{‏فاعلموا‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ناصركم عليهم ‏{‏نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير‏}‏ فمن والاه فاز ومن نصره غلب‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين‏}‏ قال‏:‏ في قريش وغيرها يوم بدر، والأمم قبل ذلك‏.‏ وأخرج أحمد، ومسلم، عن عمرو بن العاص، قال‏:‏ لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت‏:‏ ابسط يدك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، قال‏:‏ «مالك‏؟‏» قلت‏:‏ أردت أن أشترط، قال‏:‏ «تشترط ماذا‏؟‏» قلت‏:‏ أن تستغفر لي، قال‏:‏ «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحجّ يهدم ما كان قبله» وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الإسلام يجبّ ما قبله، والتوبة تجبّ ما قبلها» وقد فسر كثير من السلف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين‏}‏ بما مضى في الأمم المتقدّمة من عذاب من قاتل الأنبياء، وصمم على الكفر‏.‏ وقال السديّ ومحمد بن إسحاق‏:‏ المراد بالآية يوم بدر‏.‏ وفسر جمهور السلف الفتنة المذكورة هنا بالكفر‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ بلغني عن الزهري عن عروة ابن الزبير، وغيره من علمائنا ‏{‏حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ حتى لا يفتن مسلم عن دينه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏41‏)‏ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏‏}‏

لما أمر الله سبحانه بالقتال بقوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏ وكانت المقاتلة مظنة حصول الغنيمة، ذكر حكم الغنيمة‏.‏ والغنيمة قد قدّمنا أن أصلها إصابة الغنم من العدوّ، ثم استعملت في كل ما يصاب منهم، وقد تستعمل في كل ما ينال بسعي‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

وقد طوّفت في الآفاق حتى *** رضيت من الغنيمة بالإياب

ومنه قول الآخر‏:‏

ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه *** أنى توجه والمحروم محروم

وأما معنى الغنيمة في الشرع، فحكى القرطبي الاتفاق على أن المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ‏}‏ مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر‏.‏ قال‏:‏ ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع‏.‏ وقد ادّعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية بعد قوله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏ وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين، وأن قوله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال‏}‏ نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر على ما تقدّم أوّل السورة‏.‏

وقيل إنها أعني قوله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال‏}‏ محكمة غير منسوخة، وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليست مقسومة بين الغانمين، وكذلك لمن بعده من الأئمة، حكاه الماوردي عن كثير من المالكية‏.‏ قالوا‏:‏ وللإمام أن يخرجها عنهم، واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين وكان أبو عبيدة يقول‏:‏ افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومنّ على أهلها فردّها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئاً‏.‏ وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين‏.‏ وممن حكى ذلك ابن المنذر، وابن عبد البر، والداودي، والمازري، والقاضي عياض، وابن العربي، والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين، وكيفيتها كثيرة جداً‏.‏

قال القرطبي‏:‏ ولم يقل أحد فيما أعلم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال‏}‏ الآية ناسخ لقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ‏}‏ الآية، بل قال الجمهور‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ‏}‏ ناسخ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله‏.‏ وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها، قال‏:‏ وأما قصة حنين فقد عوّض الأنصار لما قالوا تعطى الغنائم قريشاً وتتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه، فقال لهم‏:‏ «أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم» كما في مسلم وغيره‏.‏ وليس لغيره أن يقول هذا القول، بل ذلك خاص به‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ‏}‏ يشمل كل شيء يصدق عليه اسم الغنيمة‏.‏ و‏{‏مِن شَئ‏}‏ بيان ل «ما» الموصولة، وقد خصّص الإجماع من عموم الآية الأسارى، فإن الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف‏.‏

وكذلك سلب المقتول إذا نادى به الإمام‏.‏ وقيل‏:‏ كذلك الأرض المغنومة‏.‏ وردّ بأنه لا إجماع على الأرض‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَأَنَّ للَّهِ خُمْسَه‏}‏ قرأ النخعي «فإَِنَّ للَّهِ» بكسر إن‏.‏ وقرأ الباقون بفتحها على ‏{‏أن‏}‏ أنّ وما بعدها مبتدأ وخبره محذوف، والتقدير‏:‏ فحق أو فواجب أن لله خمسه‏.‏

وقد اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس على أقوال ستة‏:‏

الأوّل قالت طائفة‏:‏ يقسم الخمس على ستة فيجعل السدس للكعبة، وهو الذي لله، والثاني لرسول الله، والثالث، لذوي القربى، والرابع لليتامى، والخامس للمساكين، والسادس لابن السبيل‏.‏

والقول الثاني‏:‏ قاله أبو العالية والربيع‏:‏ إنها تقسم الغنيمة على خمسة، فيعزل منها سهم واحد ويقسم أربعة على الغانمين، ثم يضرب يده في السهم الذي عزله، فما قبضه من شيء جعله للكعبة، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة للرسول ومن بعده الآية‏.‏

القول الثالث‏:‏ روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال‏:‏ إن الخمس لنا، فقيل له‏:‏ إن الله يقول‏:‏ ‏{‏واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ فقال‏:‏ يتامانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا‏.‏

القول الرابع قول الشافعي‏:‏ إن الخمس يقسم على خمسة، وإن سهم الله وسهم رسوله واحد يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورة في الآية‏.‏

القول الخامس قول أبي حنيفة‏:‏ إنه يقسم الخمس على ثلاثة‏:‏ اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته، كما ارتفع حكم سهمه، قال‏:‏ ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر وبناء المساجد وأرزاق القضاة والجند‏.‏ وروي نحو هذا عن الشافعي‏.‏

القول السادس قول مالك‏:‏ إنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه بغير تقدير، ويعطى منه الغزاة باجتهاد، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين‏.‏

قال القرطبي، وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم»، فإنه لم يقسمه أخماساً ولا أثلاثاً، وإنما ذكر ما في الآية من ذكره على وجه التنبيه عليهم، لأنهم من أهم من يدفع إليه‏.‏ قال الزجاج محتجاً لهذا القول‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 215‏]‏ وجائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلِذِى القربى‏}‏ قيل إعادة اللام في ذي القربى دون من بعدهم، لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد اختلف العلماء في القربى على أقوال‏:‏ الأول‏:‏ أنهم قريش كلها، روي ذلك عن بعض السلف، واستدلّ بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما صعد الصفا جعل يهتف ببطون قريش كلها قائلاً‏:‏

«يا بني فلان يا بني فلان»

وقال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج، ومسلم ابن خالد‏:‏ هم بنو هاشم وبنو المطلب لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد»، وشبك بين أصابعهوهو في الصحيح‏.‏

وقيل‏:‏ هم بنو هاشم خاصة، وبه قال مالك، والثوري، والأوزاعي، وغيرهم، وهو مروي عن علي بن الحسين، ومجاهد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله‏}‏ قال الزجاج عن فرقة‏:‏ إن المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم آمنتم بالله‏.‏ وقالت فرقة أخرى‏:‏ إن ‏{‏إِن‏}‏ متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم‏}‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا هو الصحيح لأن قوله‏:‏ ‏{‏واعلموا‏}‏ يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم، فعلق ‏{‏إن‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا‏}‏ على هذا المعنى، أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله في الغنائم، فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إنه متعلق بمحذوف يدلّ عليه ‏{‏واعلموا‏}‏ بمعنى‏:‏ إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به، فاقطعوا عنه أطماعكم، واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم المجرّد، ولكن العلم المضمن بالعمل والطاعة لأمر الله، لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر‏.‏ انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا‏}‏ معطوف على الاسم الجليل أي‏:‏ إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا‏.‏ و‏{‏يَوْمَ الفرقان‏}‏ يوم بدر، لأنه فرق بين أهل الحق وأهل الباطل‏.‏ و‏{‏الجمعان‏}‏ الفريقان من المسلمين والكافرين ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ ومن قدرته العظيمة نصر الفريق الأقلّ على الفريق الأكثر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، بكسر العين في العدوة في الموضعين‏.‏ وقرأ الباقون بالضم فيهما‏.‏ و«إِذْ» بدل من يوم الفرقان، ويجوز أن يكون العامل محذوفاً، أي واذكروا إذ أنتم‏.‏ والعدوة‏:‏ جانب الوادي‏.‏ والدنيا‏:‏ تأنيث الأدنى، والقصوى‏:‏ تأنيث الأقصى، من دنا يدنو، وقصا يقصو، ويقال القصيا، والأصل الواو‏.‏ وهي لغة أهل الحجاز، والعدوة الدنيا كانت مما يلي المدينة، والقصوى‏:‏ كانت مما يلي مكة‏.‏ والمعنى‏:‏ وقت نزولكم بالجانب الأدنى من الوادي إلى جهة المدينة، وعدوّكم بالجانب الأقصى منه مما يلي مكة‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ‏}‏ في محل نصب على الحال، وانتصاب ‏{‏أَسْفَلَ‏}‏ على الظرف، ومحله الرفع على الخبرية، أي والحال أنّ الركب في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه‏.‏ وأجاز الأخفش والكسائي والفراء رفع أسفل على معنى أشدّ سفلاً منكم، والركب‏:‏ جمع راكب، ولا تقول العرب ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل، ولا يقال لمن كان على فرس وغيرها ركب‏.‏ وكذا قال ابن فارس، وحكاه ابن السكيت عن أكثر أهل اللغة‏.‏

والمراد بالركب ها هنا ركب أبي سفيان، وهي المراد بالعير، فإنهم كانوا في موضع أسفل منهم مما يلي ساحل البحر‏.‏

قيل‏:‏ وفائدة ذكر هذه الحالة التي كانوا عليها من كونهم بالعدوة الدنيا وعدوّهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منهم الدلالة على قوّة شأن العدوّ وشوكته‏.‏ وذلك لأن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا يابس بها‏.‏ وأما العدوة الدنيا فكانت رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها‏.‏ وكانت العير وراء ظهر العدوّ مع كثرة عددهم، فامتنّ الله على المسلمين بنصرتهم عليهم والحال هذه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد‏}‏ أي‏:‏ لو تواعدتم أنتم والمشركون من أهل مكة على أن تلتقوا في هذا الموضع للقتال لخالف بعضكم بعضاً‏.‏ فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من المهابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏ولكن‏}‏ جمع الله بينكم في هذا الموطن ‏{‏لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً‏}‏ أي‏:‏ حقيقاً بأن يفعل من نصر أوليائه وخذلان أعدائه وإعزاز دينه وإذلال الكفر، فأخرج المسلمين لأخذ العير وغنيمتها عند أنفسهم، وأخرج الكافرين للمدافعة عنها‏.‏ ولم يكن في حساب الطائفتين أن يقع هذا الاتفاق على هذه الصفة، واللام في ‏{‏لّيَقْضِيَ‏}‏ متعلقة بمحذوف، والتقدير‏:‏ جمعهم ليقضي‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويَحيا مَنْ حَىَّ‏}‏ بدل من الجملة التي قبلها، أي ليموت من يموت عن بينة ويعيش عن بينة لئلا يبقى لأحد على الله حجة‏.‏ وقيل الهلاك والحياة مستعاران للكفر والإسلام، أي ليصدر إسلام من أسلم عن وضوح بينة، ويقين بأنه دين الحق، ويصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة‏.‏ قرأ نافع، وخلف، وسهل، ويعقوب، والبزي وأبو بكر ‏{‏مِنْ حيي‏}‏ بياءين على الأصل وقرأ الباقون بياء واحدة على الإدغام، وهي اختيار أبي عبيد لأنها كذلك وقعت في المصحف ‏{‏وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ سميع بكفر الكافرين عليم به، وسميع بإيمان المؤمنين عليم به‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ ثم وضع مقاسم الفيء، فقال‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ‏}‏ بعد الذي كان مضى من بدر ‏{‏فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم، عن قيس بن مسلم الجدلي قال‏:‏ سألت الحسن بن محمد بن عليّ بن أبي طالب ابن الحنفية عن قول الله‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ‏}‏ قال‏:‏ هذا مفتاح كلام، لله الدنيا والآخرة ‏{‏وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى‏}‏ فاختلفوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين السهمين‏.‏

قال قائل منهم‏:‏ سهم ذي القربى لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال قائل منهم‏:‏ سهم ذي القربى لقرابة الخليفة‏.‏ وقال قائل منهم‏:‏ سهم النبي صلى الله عليه وسلم للخليفة من بعده‏.‏ واجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله، فكان ذلك في خلافة أبي بكر وعمر‏.‏

وأخرج ابن جرير، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة فضرب ذلك في خمسه، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم‏}‏ الآية، قال قوله‏:‏ ‏{‏فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ‏}‏ مفتاح كلام، لله ما في السموات وما في الأرض، فجعل الله سهم الله والرسول واحداً ‏{‏وَلِذِى القربى‏}‏ فجعل هذين السهمين قوّة في الخيل والسلاح، وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطيه غيرهم، وجعل الأربعة الأسهم الباقية‏:‏ للفرس سهماً ولراكبه سهماً، وللراجل سهماً‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه، قال‏:‏ كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس‏:‏ فأربعة منها بين من قاتل عليها، وخمس واحد يقسم على أربعة أخماس‏.‏ فربع لله وللرسول ولذي القربى، يعني قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ النبي من الخمس شيئاً، والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل، وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية، في قوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ‏}‏ الآية قال‏:‏ كان يجاء بالغنيمة فتوضع، فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم، فيعزل سهماً منها، ويقسم أربعة أسهم بين الناس، يعني لمن شهد الوقعة، ثم يضرب بيده في جميع السهم الذي عزله، فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة، فهو الذي سمى الله لا تجعلوا لله نصيباً، فإن لله الدنيا والآخرة ثم يعمد إلى بقية السهم فيقسمه على خمسة أسهم‏:‏ سهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم لذي القربى وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل‏.‏

وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل سهم الله في السلاح والكراع وفي سبيل الله وفي كسوة الكعبة وطيبها وما تحتاج إليه الكعبة، ويجعل سهم الرسول في الكراع والسلاح ونفقة أهله، وسهم ذي القربى لقرابته، يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم مع سهمهم مع الناس، ولليتامى والمساكين وابن السبيل ثلاثة أسهم يضعها رسول الله فيمن شاء حيث شاء، ليس لبني عبد المطلب في هذه الثلاثة الأسهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم مع سهام الناس‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن حسين المعلم قال‏:‏ سألت عبد الله بن بريدة عن قوله‏:‏ ‏{‏فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ فقال‏:‏ الذي لله لنبيه، والذي للرسول لأزواجه‏.‏ وأخرج الشافعي، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، ومسلم، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، أن نجدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى الذين ذكر الله، فكتب إليه إنا كنا نرى أناهم فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا قريش كلها ذوو قربى، وزيادة قوله وقالوا قريش كلها تفرّد بها أبو معشر‏.‏ وفيه ضعف‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، من وجه آخر عن ابن عباس‏:‏ أن نجدة الحروري أرسل إليه يسأله عن سهم ذي القربى، ويقول لمن تراه‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ هو لقربى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون حقنا فرددناه عليهم وأبينا أن نقبله، وكان عرض عليهم أن يعين ناكحهم وأن يقضي عن غارمهم، وأن يعطي فقيرهم، وأبى أن يزيدهم على ذلك‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ رغبت لكم عن غسالة الأيدي، لأن لكم في خمس الخمس ما يكفيكم أو يغنيكم‏.‏ رواه ابن أبي حاتم عن إبراهيم بن مهدي المصيصي حدّثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عنه مرفوعاً‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ هذا حديث حسن الإسناد، وإبراهيم بن مهدي هذا وثقه أبو حاتم‏.‏ وقال يحيى بن معين‏:‏ يأتي بمناكير‏.‏ أخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن الزهري وعبد الله بن أبي بكر، عن جبير بن مطعم‏:‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قسم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب‏.‏ قال‏:‏ فمشيت أنا وعثمان بن عفان حتى دخلنا عليه، فقلنا يا رسول الله هؤلاء إخوانك من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم دوننا، فإنما نحن وهم بمنزلة واحدة في النسب‏؟‏ فقال‏:‏ «إنهم لم يفارقونا في الجاهلية والإسلام» وقد أخرجه مسلم في صحيحه‏.‏

وأخرج ابن مرديه، عن زيد بن أرقم قال‏:‏ آل محمد الذين أعطوا الخمس‏:‏ آل عليّ، وآل العباس، وآل جعفر، وآل عقيل‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ كان للنبي صلى الله عليه وسلم شيء واحد من المغنم يصطفيه لنفسه، إما خادم وإما فرس، ثم يصيب بعد ذلك من الخمس‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن مردويه، عن عليّ قال‏:‏ قلت يا رسول الله‏:‏ ألا وليتني ما خصنا الله به من الخمس‏؟‏ فولانيه‏.‏

وأخرج الحاكم وصححه عنه قال‏:‏ ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الخمس فوضعته مواضعه حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ الفرقان‏}‏ قال‏:‏ هو يوم بدر، وبدر ما بين مكة والمدينة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ الفرقان‏}‏ قال‏:‏ هو يوم بدر فرق الله فيه بين الحق والباطل‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن عليّ بن أبي طالب، قال‏:‏ كانت ليلة الفرقان ليلة التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان‏.‏ وأخرجه عنه ابن جرير أيضاً‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا‏}‏ قال‏:‏ العدوة الدنيا شاطئ الوادي ‏{‏والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ‏}‏‏.‏ قال أبو سفيان‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال‏:‏ العدوة الدنيا شفير الوادي الأدنى، والعدوة القصوى شفير الوادي الأقصى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏43‏)‏ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏44‏)‏‏}‏

«إذ» منصوب بفعل مقدّر، أي اذكر أو هو بدل ثان من يوم الفرقان‏.‏ والمعنى‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم في منامه قليلاً، فقصّ ذلك على أصحابه، فكان ذلك سبباً لثباتهم‏.‏ ولو رآهم في منامه كثيراً، لفشلوا وجبنوا عن قتالهم وتنازعوا في الأمر، هل يلاقونهم أم لا‏؟‏ ‏{‏ولكن الله سَلَّمَ‏}‏ أي سلمهم وعصمهم من الفشل والتنازع، فقللهم في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام‏.‏ وقيل عني بالمنام‏:‏ محل النوم، وهو العين، أي في موضع منامك وهو عينك، روي ذلك عن الحسن‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا مذهب حسن، ولكنّ الأوّل أسوغ في العربية لقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ‏}‏ فدلّ بهذا على أن هذه رؤية الالتقاء، وأن تلك رؤية النوم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ‏}‏ الظرف منصوب بمضمر معطوف على الأوّل، أي واذكروا وقت إراءتكم إياهم حال كونهم قليلاً، حتى قال القائل من المسلمين لآخر‏:‏ أتراهم سبعين‏؟‏ قال‏:‏ هم نحو المائة‏.‏ وقلل المسلمين في أعين المشركين حتى قال قائلهم‏:‏ إنما هم أكلة جزور، وكان هذا قبل القتال، فلما شرعوا فيه كثر الله المسلمين في أعين المشركين، كما قال في آل عمران‏:‏ ‏{‏يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ العين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏، ووجه تقليل المسلمين في أعين المشركين هو أنهم إذا رأوهم قليلاً أقدموا على القتال غير خائفين، ثم يرونهم كثيراً فيفشلون، وتكون الدائرة عليهم، ويحلّ بهم عذاب الله وسوط عقابه‏.‏ واللام في ‏{‏لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً‏}‏ متعلقة بمحذوف كما سبق مثله قريباً‏.‏ وإنما كرره لاختلاف المعلل به ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏ كلها يفعل فيها ما يريد ويقضي في شأنها ما يشاء‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً‏}‏ قال‏:‏ أراه الله إياهم في منامه قليلاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك فكان ذلك تثبيتاً لهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ‏}‏ يقول‏:‏ لجبنتم ‏{‏ولتنازعتم فِى الأمر‏}‏ قال‏:‏ لاختلفتم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن الله سَلَّمَ‏}‏ أي‏:‏ أتمّ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عنه ‏{‏ولكن الله سَلَّمَ‏}‏ يقول‏:‏ سلم لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن مسعود، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ‏}‏ الآية قال‏:‏ لقد قلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي‏:‏ تراهم سبعين‏؟‏ قال‏:‏ لا بل هم مائة، حتى أخذنا رجلاً منهم، فسألناه قال‏:‏ كنا ألفاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة، في الآية قال‏:‏ حضض بعضهم على بعض‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ إسناده صحيح‏.‏ وأخرج ابن إسحاق عن عباد بن عبد الله بن الزبير في قوله‏:‏ ‏{‏لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً‏}‏ أي ليلقي بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد النعمة عليه من أهل ولايته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 49‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏45‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏46‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏47‏)‏ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏48‏)‏ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً‏}‏ اللقاء‏.‏ الحرب، والفئة‏:‏ الجماعة، أي إذا حاربتم جماعة من المشركين ‏{‏فاثبتوا‏}‏ لهم ولا تجبنوا عنهم، وهذا لا ينافي الرخصة المتقدّمة في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 16‏]‏ فإن الأمر بالثبات هو في حال السعة، والرخصة هي في حال الضرورة‏.‏ وقد لا يحصل الثبات إلا بالتحرّف والتحيز ‏{‏واذكروا الله‏}‏ أي‏:‏ اذكروا الله عند جزع قلوبكم، فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد؛ وقيل المعنى‏:‏ اثبتوا بقلوبكم واذكروا بألسنتكم فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمرهم بالذكر حتى يجتمع ثبات القلب واللسان‏.‏ قيل وينبغي أن يكون الذكر في هذه الحالة بما قاله أصحاب طالوت‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 250‏]‏‏.‏ وفي الآية دليل على مشروعية الذكر في جميع الأحوال، حتى في هذه الحالة التي ترجف فيها القلوب، وتزيغ عندها البصائر، ثم أمرهم بطاعة الله فيما يأمرهم به وطاعة رسوله فيما يرشدهم إليه، ونهاهم عن التنازع وهو الاختلاف في الرأي، فإن ذلك يتسبب عنه الفشل، وهو الجبن في الحرب‏.‏ والفاء جواب النهي، والفعل منصوب بإضمار أن، ويجوز أن يكون الفعل معطوفاً على ‏{‏تنازعوا‏}‏ مجزوماً بجازمه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ‏}‏ قرئ بنصب الفعل، وجزمه عطفاً على تفشلوا على الوجهين، والريح‏:‏ القوّة والنصر، كما يقال الريح لفلان إذا كان غالباً في الأمر‏.‏ وقيل الريح الدولة، شبهت في نفوذ أمرها بالريح في هبوبها، ومنه قول الشاعر‏:‏

إذ هبت رياحك فاغتنمها *** فعقبى كل خافقة سكون

وقيل المراد بالريح‏:‏ ريح الصبا، لأن بها كان ينصر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمرهم بالصبر على شدائد الحرب، وأخبرهم بأنه مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه، ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غالب، ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات، وإن كانت كثيرة، ثم نهاهم عن أن تكون حالتهم كحالة هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس، وهم قريش‏.‏ فإنهم خرجوا يوم بدر ليحفظوا العير التي مع أبي سفيان، ومعهم القيان والمعازف، فلما بلغوا الجحفة بلغهم أن العير قد نجت وسلمت، فلم يرجعوا بل قالوا لا بدّ لهم من الوصول إلى بدر ليشربوا الخمر، وتغني لهم القيان، وتسمع العرب بمخرجهم، فكان ذلك منهم بطراً وأشراً وطلباً للثناء من الناس، وللتمدح إليهم، والفخر عندهم، وهو الرياء؛ وقيل والبطر في اللغة‏:‏ التقوّي بنعم الله على معاصيه، وهو مصدر في موضع الحال، أي خرجوا بطرين مرائين‏.‏ وقيل هو مفعول له وكذا رياء، أي خرجوا للبطر والرياء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَصُدُّونَ‏}‏ معطوف على بطراً، والمعنى كما تقدّم، أي خرجوا بطرين مرائين صادّين عن سبيل الله، أو للصدّ عن سبيل الله‏.‏

والصدّ‏:‏ إضلال الناس والحيلولة بينهم وبين طرق الهداية‏.‏ ويجوز أن يكون و‏{‏يصدّون‏}‏ معطوفاً على يخرجون، والمعنى‏:‏ يجمعون بين الخروج على تلك الصفة والصدّ ‏{‏والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ لا تخفى عليه من أعمالهم خافية، فهو‏:‏ مجازيهم عليها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم‏}‏ الظرف متعلق بمحذوف، أي واذكر يا محمد وقت تزيين الشيطان لهم أعمالهم، والتزيين‏:‏ التحسين، وقد روي أن الشيطان تمثل لهم وقال لهم تلك المقالة، وهي‏:‏ ‏{‏لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ مجير لكم من كل عدوّ أو من بني كنانة، ومعنى الجار هنا‏:‏ الدافع عن صاحبه أنواع الضرر، كما يدفع الجار عن الجار، وكان في صورة سراقة بن مالك بن جشعم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إنه ألقى في روعهم هذه المقالة، وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون ‏{‏فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان‏}‏ أي‏:‏ فئة المسلمين والمشركين ‏{‏نَكَصَ على عَقِبَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ رجع القهقري، ومنه قول الشاعر‏:‏

ليس النكوص على الأعقاب مكرمة *** إن المكارم إقدام على الأمل

وقول الآخر‏:‏

وما نفع المستأخرين نكوصهم *** ولا ضرّ أهل السابقات التقدّم

وقيل معنى نكص هاهنا‏:‏ بطل كيده وذهب ما خيله ‏{‏وَقَالَ إِنّي بَرِئ مّنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ تبرأ منهم لما رأى أمارات النصر مع المسلمين بإمداد الله لهم بالملائكة، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إِنّى أرى مَالاً تَرَوْنَ‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة، ثم علل بعلة أخرى فقال‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ الله‏}‏ قيل‏:‏ خاف أن يصاب بمكروه من الملائكة الذين حضروا الوقعة؛ وقيل إن دعوى الخوف كذب منه، ولكنه رأى أنه لا قوّة له ولا للمشركين فاعتلّ بذلك، وجملة ‏{‏والله شَدِيدُ العقاب‏}‏ يحتمل أن تكون من تمام كلام إبليس، ويحتمل أن تكون كلاماً مستأنفاً من جهة الله سبحانه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ المنافقون‏}‏ الظرف معمول لفعل محذوف هو اذكر، ويجوز أن يتعلق بنكص أو بزين أو بشديد العقاب‏.‏ قيل‏:‏ المنافقون هم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ‏{‏والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ هم الشاكون من غير نفاق، بل لكونهم حديثي عهد بالإسلام، فوافقوا المنافقين في قولهم بهذه المقالة، أعني‏:‏ ‏{‏غَرَّ هَؤُلاء‏}‏ أي‏:‏ المسلمين ‏{‏دِينَهُمُ‏}‏ حتى تكلفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش‏.‏ وقيل‏:‏ الذين في قلوبهم مرض هم المشركون، ولا يبعد أن يراد بهم اليهود الساكنون في المدينة وما حولها، وأنهم هم والمنافقون من أهل المدينة، قالوا هذه المقالة عند خروج المسلمين إلى بدر لما رأوهم في قلة من العدد وضعف من العدد، فأجاب الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ لا يغلبه غالب، ولا يذلّ من توكل عليه ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ له الحكمة البالغة التي تقصر عندها العقول‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏واذكروا الله‏}‏ قال‏:‏ افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون‏:‏ عند الضراب بالسيوف‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه، عن سهل بن سعد، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثنتان لا يردّان‏:‏ الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً» وأخرج الحاكم وصححه، عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الصوت عند القتال‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ لا تختلفوا فتجبنوا ويذهب نصركم‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ‏}‏ قال‏:‏ نصركم‏.‏ وقد ذهب ريح أصحاب محمد حين نازعوه يوم أحد‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم‏}‏ الآية، يعني المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن مجاهد، في الآية قال‏:‏ أبو جهل وأصحابه يوم بدر‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في الآية قال‏:‏ كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر خرجوا ولهم بغي وفخر، وقد قيل لهم يومئذ ارجعوا فقد انطلقت عيركم وقد ظفرتم، فقالوا‏:‏ لا والله حتى يتحدّث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ «اللهم إن قريشاً قد أقبلت بفخرها وخيلائها لتجادل رسولك» وذكر لنا أنه صلى الله عليه وسلم قال يومئذ «جاءت من مكة أفلاذها»‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، قال‏:‏ جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان‏:‏ ‏{‏لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ‏}‏ وأقبل جبريل على إبليس، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده وولى مدبراً وشيعته، فقال الرجل‏:‏ يا سراقة إنك جار لنا فقال‏:‏ ‏{‏إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ‏}‏ وذلك حين رأى الملائكة ‏{‏إِنّي أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب‏}‏ قال‏:‏ ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين، وقلل المشركين في أعين المسلمين، فقال المشركون‏:‏ وما هؤلاء‏؟‏ غرّ هؤلاء دينهم، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم، وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك، فقال الله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

وأخرج الطبراني، وأبو نعيم، عن رفاعة بن رافع الأنصاري، قال‏:‏ لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه فتشبث به الحارث بن هشام، وهو يظنّ أنه سراقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث، فألقاه ثم خرج هارباً حتى ألقى نفسه في البحر، ورفع يديه فقال‏:‏ اللهم إني أسألك نظرتك إياي‏.‏ وأخرج الواقدي وابن مردويه، عن ابن عباس نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ‏}‏ قال‏:‏ ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة، فعلم عدوّ الله أنه لا يدان له بالملائكة، وقال‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ الله‏}‏ وكذب عدوّ الله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوّة له به ولا منعة له‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن معمر قال‏:‏ ذكروا أنهم أقبلوا على سراقة بن مالك بعد ذلك، فأنكر أن يكون قال شيئاً من ذلك‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ المنافقون‏}‏ قال‏:‏ وهم يومئذ في المسلمين‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن، في قوله‏:‏ ‏{‏والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ قال‏:‏ هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن الكلبي في قوله‏:‏ ‏{‏والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ قال‏:‏ هم قوم كانوا أقرّوا بالإسلام، وهم بمكة ثم خرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا المسلمين قالوا‏:‏ ‏{‏غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن الشعبي نحوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 54‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏50‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏51‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏52‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏53‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى‏}‏ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له كما تقدّم تحقيقه في غير موضع‏.‏ والمعنى‏:‏ ولو رأيت، لأن «لو» تقلب المضارع ماضياً، و«إِذْ» ظرف لترى، والمفعول محذوف، أي ولو ترى الكافرين وقت توفي الملائكة لهم‏.‏ قيل أراد بالذين كفروا من لم يقتل يوم بدر‏.‏ وقيل‏:‏ هي فيمن قتل ببدر وجواب «لو» محذوف تقديره لرأيت أمراً عظيماً‏.‏ وجملة ‏{‏يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ‏}‏ في محل نصب على الحال، والمراد بأدبارهم أستاههم، كنى عنها بالأدبار‏.‏ وقيل ظهورهم‏.‏ قيل هذا الضرب يكون عند الموت كما يفيده ذكر التوفي‏.‏ وقيل‏:‏ هو يوم القيامة حين يسيرون بهم إلى النار‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق‏}‏ قاله‏:‏ الفراء، المعنى‏:‏ ويقولون ذوقوا عذاب الحريق، والجملة معطوفة على يضربون‏.‏ وقيل‏:‏ إنه يقول لهم هذه المقالة خزنة جهنم، والذوق قد يكون محسوساً، وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، وأصله من الذوق بالضم، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تقدّم من الضرب والعذاب والباء في ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ سببية، أي ذلك واقع بسبب ما كسبتم من المعاصي، واقترفتم من الذنوب‏.‏ وجملة ‏{‏وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي والأمر أنه لا يظلمهم، ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة الواقعة خبراً لقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ وهي‏:‏ ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ أي ذلك العذاب بسبب المعاصي، وبسبب‏:‏ ‏{‏أَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ لأنه سبحانه قد أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأوضح لهم السبيل، وهداهم النجدين كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 118‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ‏}‏ لما ذكر الله سبحانه ما أنزله بأهل بدر أتبعه بما يدل على أن هذه سنته في فرق الكافرين‏.‏ والدأب‏:‏ العادة، والكاف في محل الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف، أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون ‏{‏والذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏، والمعنى‏:‏ أنه جوزي هؤلاء كما جوزي أولئك، فكانت العادة في عذاب هؤلاء كالعادة الماضية لله في تعذيب طوائف الكفر، وجملة قوله‏:‏ ‏{‏كَفَرُواْ بئايات الله‏}‏ مفسرة لدأب آل فرعون، أي دأبهم هذا هو أنهم كفروا بآيات الله، فتسبب عن كفرهم أخذ الله سبحانه لهم، والمراد بذنوبهم‏:‏ معاصيهم المترتبة على كفرهم، فيكون الباء في ‏{‏بذنوبهم‏}‏ للملابسة، أي فأخذهم متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب‏}‏ معترضة مقرّرة لمضمون ما قبلها‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى العقاب الذي أنزله الله بهم، وهو مبتدأ وخبره ما بعده، والجملة جارية مجرى التعليل لما حلّ بهم من عذاب الله‏.‏

والمعنى‏:‏ أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم ‏{‏حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ‏}‏ من الأحوال والأخلاق بكفران نعم الله وغمط إحسانه وإهمال أوامره ونواهيه، وذلك كما كان من آل فرعون ومن قبلهم ومن قريش ومن يماثلهم من المشركين، فإن الله فتح لهم أبواب الخيرات في الدنيا ومنّ عليهم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، فقابلوا هذه النعم بالكفر فاستحقوا تغيير النعم، كما غيروا ما كان يجب عليهم سلوكه، والعمل به من شكرها وقبولها، وجملة ‏{‏وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ معطوفة على ‏{‏بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً‏}‏ داخلة معها في التعليل، أي ذلك بسبب أن الله لم يك مغيراً، إلخ‏.‏ وبسبب أن الله سميع عليم يسمع ما يقولونه ويعلم ما يفعلونه‏.‏ وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف‏.‏

ثم كرّر ما تقدّم، فقال ‏{‏كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيات رَبّهِمْ‏}‏ لقصد التأكيد مع زيادة أنه كالبيان للأخذ بالذنوب بأنه كان بالإغراق، وقيل‏:‏ إن الأوّل باعتبار ما فعله آل فرعون ومن شبه بهم، والثاني‏:‏ باعتبار ما فعل بهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالأوّل كفرهم بالله، والثاني تكذيبهم الأنبياء‏.‏ وقيل غير ذلك مما لا يخلو عن تعسف، والكلام في ‏{‏أهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ كالكلام المتقدّم في ‏{‏فأخذهم الله بذنوبهم‏}‏ ‏{‏وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْن‏}‏ معطوف على أهلكناهم، عطف الخاص على العام، لفظاعته وكونه من أشدّ أنواع الإهلاك، ثم حكم على كلا الطائفتين من آل فرعون والذين من قبلهم، ومن كفار قريش بالظلم لأنفسهم، بما تسببوا به لعذاب الله من الكفر بالله وآياته ورسله، وبالظلم لغيرهم، كما كان يجري منهم في معاملاتهم للناس بأنواع الظلم‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة‏}‏ قال‏:‏ الذين قتلهم الله ببدر من المشركين‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الحسن، قال‏:‏ قال رجل يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك قال‏:‏ «ذلك ضرب الملائكة» وهذا مرسل‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وأدبارهم‏}‏ قال‏:‏ وأستاههم، ولكن الله كريم يكنى‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنعمَها على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ نعمة الله‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم أنعم الله به على قريش فكفروا فنقله الله إلى الأنصار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 60‏]‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏55‏)‏ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ‏(‏56‏)‏ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ‏(‏58‏)‏ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ‏(‏59‏)‏ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَرَّ الدواب‏}‏ أي‏:‏ شرّ ما يدب على وجه الأرض ‏{‏عَندَ الله‏}‏ أي‏:‏ في حكمه ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي‏:‏ المصرّون على الكفر المتمادون في الضلال‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ إن هذا شأنهم لا يؤمنون أبداً، ولا يرجعون عن الغواية أصلاً، وجعلهم شرّ الدوابّ لا شرّ الناس إيماء إلى انسلاخهم عن الإنسانية، ودخولهم في جنس غير الناس من أنواع الحيوان لعدم تعقلهم لما فيه رشادهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏الذين عاهدت مِنْهُمْ‏}‏ بدل من الذين كفروا أو عطف بيان أو في محل نصب على الذمّ‏.‏ والمعنى‏:‏ أن هؤلاء الكافرين الذين همّ شرّ الدوابّ عند الله هم هؤلاء الذين عاهدت منهم، أي أخذت منهم عهدهم، ثُمَّ هم ‏{‏يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ‏}‏ الذي عاهدتهم ‏{‏فِي كُلّ مَرَّةٍ‏}‏ من مرّات المعاهدة، والحال أنهُمْ ‏{‏لا يَتَّقُونَ‏}‏ النقض، ولا يخافون عاقبته ولا يتجنبون أسبابه‏.‏ وقيل إن «مِنْ» في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ للتبعيض، ومفعول عاهدت محذوف، أي الذين عاهدتهم، وهم بعض أولئك الكفرة‏:‏ يعني الأشراف منهم، وعطف المستقبل وهو ‏{‏ثم ينقضون‏}‏ على الماضي، وهو ‏{‏عاهدت‏}‏ للدلالة على استمرار النقض منهم، وهؤلاء هم قريظة، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوا الكفار فلم يفوا بذلك كما سيأتي، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشدّة والغلظة عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الحرب فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ فإما تصادفنهم في ثقاف، وتلقاهم في حالة تقدر عليهم فيها، وتتمكن من غلبهم ‏{‏فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ففرّق بقتلهم والتنكيل بهم من خلفهم من المحاربين لك من أهل الشرك حتى يهابوا جانبك، ويكفوا عن حربك مخافة أن ينزل بهم ما نزل بهؤلاء‏.‏ والثقاف في أصل اللغة‏:‏ ما يشد به القناة أو نحوها، ومنه قول النابغة‏:‏

تدعو قعيباً وقد غض الحديد بها *** غض الثقاف على ضمّ الأنابيب

يقال ثقفته‏:‏ وجدته، وفلان ثقف‏:‏ سريع الوجود لما يحاوله، والتشريد‏:‏ التفريق مع الاضطراب‏.‏ وقال أبو عبيدة ‏{‏شرد بِهِمُ‏}‏ سمع بهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ افعل بهم فعلاً من القتل تفرّق به من خلفهم، يقال شردت بني فلان‏:‏ قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أطوّف في الأباطح كل يوم *** مخافة أن يشردني حكيم

ومنه شرد البعير‏:‏ إذا فارق صاحبه، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ «فشرد بِهِم» بالذال المعجمة‏.‏ قال قطرب‏:‏ التشريذ بالذال المعجمة هو التنكيل، وبالمهملة هو التفريق‏.‏ وقال المهدوي‏:‏ الذال المعجمة لا وجه لها إلا أن تكون بدلاً من الدال المهملة لتقاربهما، قال‏:‏ ولا يعرف فشرّذ في اللغة، وقرئ «مّنْ خَلْفِهِمْ» بكسر الميم والفاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً‏}‏ أي‏:‏ غشاً ونقضاً للعهد من القوم المعاهدين ‏{‏فانبذ إِلَيْهِمْ‏}‏ أي فاطرح إليهم العهد الذي بينك وبينهم ‏{‏على سَوَاء‏}‏ على طريق مستوية‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يخبرهم إخباراً ظاهراً مكشوفاً بالنقض، ولا يناجزهم الحرب بغتة، وقيل معنى‏:‏ ‏{‏على سَوَاء‏}‏ على وجه يستوي في العلم بالنقض أقصاهم وأدناهم، أو تستوي أنت وهم فيه‏.‏ قال الكسائي‏:‏ السواء العدل، وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏فِى سَوَاء الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 55‏]‏، ومنه قول حسان‏:‏

يا ويح أنصار النبي ورهطه *** بعد المغيب في سواء الملحد

ومن الأوّل قول الشاعر‏:‏

فاضرب وجوه الغدّر الأعداء *** حتى يجيبوك إلى سواء

وقيل‏:‏ معنى ‏{‏فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء‏}‏ على جهر لا على سرّ، والظاهر أن هذه الآية عامة في كل معاهد يخاف من وقوع النقض منه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة انقضى عند قوله‏:‏ ‏{‏فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ‏}‏ ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة، وجملة ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين‏}‏ تعليل لما قبلها، يحتمل أن تكون تحذيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المناجزة قبل أن ينبذ إليهم على سواء، ويحتمل أن تكون عائدة إلى القوم الذين تخاف منهم الخيانة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ‏}‏ قرأ ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص بالياء التحتية‏.‏ وقرأ الباقون بالمثناة من فوق‏.‏ فعلى القراءة الأولى يكون الذين كفروا فاعل الحسبان، ويكون مفعوله الأوّل محذوفاً، أي لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم، ومفعوله الثاني سبقوا ومعناه‏:‏ فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم‏.‏ وعلى القراءة الثانية يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومفعوله الأول الذين كفروا، والثاني سبقوا، وقرئ ‏"‏ إِنهَّم سَبَقُوا ‏"‏ وقرئ «يحسبن» بكسر الياء، وجملة ‏{‏إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ‏}‏ تعليل لما قبلها، أي إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏"‏ أنهم ‏"‏ بفتح الهمزة، والباقون بكسرها، وكلا القراءتين مفيدة لكون الجملة تعليلية‏.‏ وقيل المراد بهذه الآية‏:‏ من أفلت من وقعة بدر من المشركين‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم وإن أفلتوا من هذه الوقعة ونجوا فإنهم لا يعجزون، بل هم واقعون في عذاب الله في الدنيا أو في الآخرة‏.‏ وقد زعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم، أن قراءة من قرأ ‏"‏ يحسبنّ ‏"‏ بالتحتية لحن، لا تحلّ القراءة بها، لأنه لم يأت ليحسبنّ بمفعول، وهو يحتاج إلى مفعولين‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا تحامل شديد‏.‏ ومعنى هذه القراءة‏:‏ ولا يحسبنّ من خلفهم الذين كفروا سبقوا، فيكون الضمير يعود على ما تقدّم إلا أن القراءة بالتاء أبين‏.‏

وقال المهدوي‏:‏ يجوز على هذه القراءة أن يكون الذين كفروا فاعلاً، والمفعول الأوّل محذوف‏.‏ والمعنى ولا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم سبقوا‏.‏ قال مكي‏:‏ ويجوز أن يضمر مع سبقوا «أن» فتسدّ مسد المفعولين، والتقدير‏:‏ ولا يحسبنّ الذين كفروا أن سبقوا، فهو مثل‏:‏ ‏{‏أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 2‏]‏ في سدّ أن مسدّ المفعولين‏.‏

ثم أمر سبحانه بإعداد القوّة للأعداء، والقوّة كل ما يتقوّى به في الحرب، ومن ذلك السلاح والقسيّ‏.‏ وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عقبة بن عامر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة‏}‏ ألا إن القوّة الرمي، قالها ثلاث مرات ‏"‏ وقيل‏:‏ هي الحصون، والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متعين‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمِن رّبَاطِ الخيل‏}‏‏.‏ قرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة «ومن ربط الخيل» بضم الراء والباء ككتب‏:‏ جمع كتاب‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ الرباط من الخيل الخمس فما فوقها، وهي الخيل التي ترتبط بإزاء العدو‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

أمر الإله بربطها لعدوّه *** في الحرب إن الله خير موفق

قال في الكشاف‏:‏ والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة‏.‏ ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال‏.‏ انتهى‏.‏ ومن فسر القوّة بكل ما يتقوّى به في الحرب جعل عطف الخيل من عطف الخاص على العام، وجملة ‏{‏تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ‏}‏ في محل نصب على الحال، والترهيب‏:‏ التخويف، والضمير في ‏{‏به‏}‏ عائد إلى «ما» في ‏{‏ما استطعتم‏}‏ أو إلى المصدر المفهوم من ‏{‏وأعدّوا‏}‏ وهو الإعداد‏.‏ والمراد بعدوّ الله وعدوهم هم المشركون من أهل مكة، وغيرهم من مشركي العرب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَآخَرِينَ مِن دُونِهِم‏}‏ معطوف على عدوّ الله وعدوّكم‏.‏ ومعنى من دونهم‏:‏ من غيرهم‏.‏ قيل هم اليهود‏.‏ وقيل فارس والروم، وقيل الجنّ، ورجحه ابن جرير‏.‏ وقيل المراد بالآخرين من عدوهم‏:‏ كل من لا تعرف عداوته، قاله السهيلي‏.‏ وقيل‏:‏ هم بنو قريظة خاصة، وقيل غير ذلك‏.‏ والأولى‏:‏ الوقف في تعيينهم لقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ‏}‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَئ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ أي‏:‏ في الجهاد وإن كان يسيراً حقيراً ‏{‏يُوَفَّ إِلَيْكُمْ‏}‏ جزاؤه في الآخرة‏.‏ فالحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، كما قرّرناه سابقاً‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ‏}‏ في شيء من هذه النفقة التي تنفقونها في سبيل الله، أي من ثوابها، بل يصير ذلك إليكم وافياً وافراً كاملاً ‏{‏وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 195‏]‏‏.‏

وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال‏:‏ نزلت ‏{‏إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله‏}‏ الآية في ستة رهط من اليهود فيهم ابن تابوت‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏الذين عاهدت مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ قريظة يوم الخندق مالؤوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ نكل بهم من بعدهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عنه، في الآية قال‏:‏ نكل بهم من رواءهم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، في الآية قال‏:‏ أنذر بهم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة قال‏:‏ عظ بهم من سواهم من الناس‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، قال‏:‏ أخفهم بهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك‏.‏

وأخرج أبو الشيخ عن ابن شهاب قال‏:‏ دخل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قد وضعت السلاح وما زلنا في طلب القوم، فاخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة، وأنزل فيهم‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ‏}‏ قال‏:‏ لا يفوتونا‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ‏}‏ قال‏:‏ الرمي والسيوف والسلاح‏.‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ‏}‏ قال‏:‏ أمرهم بإعداد الخيل‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، والبيهقي في الشعب، عن عكرمة في الآية قال‏:‏ القوّة ذكور الخيل، والرباط الإناث‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيب في الآية قال‏:‏ القوّة الفرس إلى السهم فما دونه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة قال‏:‏ القوّة الحصون‏.‏ ‏{‏ومِنْ رّبَاطِ الخيل‏}‏ قال‏:‏ الإناث‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ‏}‏ قال‏:‏ تخزون به عدوّ الله وعدوّكم‏.‏ وقد ورد في استحباب الرمي، وما فيه من الأجر أحاديث كثيرة، وكذلك ورد في استحباب اتخاذ الخيل وإعدادها، وكثرة ثواب صاحبها أحاديث لا يتسع المقام لبسطها‏.‏ وقد أفرد ذلك جماعة من العلماء بمصنفات‏.‏